كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما خسف به فاستبصر الجهال الذين هم كالبهائم لا يرون إلا المحسوسات، عبر عن حالهم بقوله: {وأصبح} أي وصار، ولكنه عبر به لمقابلة الأمس، وإعلامًا بأن ما رأوا من حاله ملأ صدورهم فلم يكن لهم هم سواه {الذين تمنوا} أي أرادوا إرادة عظيمة بغاية الشغف أن يكونوا {مكانه} أي يكون حاله ومنزلته في الدنيا لهم {بالأمس} أي الزمان الماضي القريب وإن لم يكن يلي يومهم الذي هم فيه من قبله {يقولون ويكأن} هذه الكلمة والتي بعدها متصلة بإجماع المصاحف، وعن الكسائي أنه يوقف على الياء من وى، وعن أبي عمرو أنه يوقف على الكاف: ويك، قال الرضي في شرح الحاجبية: وي للتندم أو للتعجب، ثم قال: وهو عند الخليل وسيبويه وي للتعجب، ركبت مع كأن التي للتشبيه، وقال الفراء: كلمة تعجب ألحق بها كاف الخطاب نحو ويك عنتر أقدم، أي من قوله في قصيدته الميمية المشهورة إحدى المعلقات السبع:
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ** قيل الفوارس ويك عنتر أقدم

أي ويلك وعجبًا منك، وضم إليها أن فالمعنى: ألم تر أنه، ونقل ابن الجوزي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال الفراء: ولما صار معنى ويكأن ألم تر، لم تغير كاف الخطاب للمؤنث والمثنى والمجموع بل لزم حالة واحدة، وقال الجعبري في شرح الشاطبية: وي صوت يقوله المتندم والمتعجب، وويك أصله ويلك، حذفت لامه تخفيفًا لكثرة دوره؛ والكاف للخطاب وفتحت أن لإضمار العلم؛ وقال قطرب: لتقدير اللام، ونشأ من التركيب معنى: ندمنا على تفريطنا، وتعجبنا من حالنا، وتحققنا خلاف اعتقادنا، ورسمت متصلة تنبيهًا على التركيب، وقال القزاز في ديوانه الجامع: ويك كلمة ينبه بها الإنسان، وقيل: معناها رحمة، ووي معناها التنبيه والإنكار، وقال الإمام عبد الحق: وي كلمة تقال في التعجب والاستدراك، وقيل: وي حزن، وقال قطرب: وي كلمة تفجع- انتهى.
وقال سيبويه في باب ما ينتصب فيه الخبر بعد الأحرف الخمسة: وسألت الخليل عن هذه الآية فزعم أنها وي مفصولة من كأن والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم، أو نبهوا فقيل لهم: أما يشبه أن يكون هذا عندكم هكذا. والله تعالى أعلم. وأما المفسرون: فقالوا: ألم تر أن الله.
فالمعنى الذي يجمع الأقوال حينئذ: تعجبًا أو ويلًا أو تندمًا على ما قلنا في تبين غلطنا، وتنبيهًا على الخطأ، أو هلاك لنا، إو إنكار علينا، أو حزن لنا، أو تفجع علينا، أو استدراك علينا، أو رحمة لنا، أو تنبه منا، أو تنبيه لنا، ثم عللوا ذلك بقولهم: أن الله، أو يشبه أن الله، أو ألم تر أيها السامع والناظر أن الله، وقال الرازي: اسم سمي به القول، أي أعجب، ومعناه التنبيه؛ ثم ابتدأ كأن {الله} أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله {يبسط الرزق} أي الكامل {لمن يشاء} سواء كان عنده ما يحتال به على الرزق أم لا.
ولما كانت القصة لقارون، وكان له من المكنة في الدنيا ما مضى ذكره، وكانت العادة جارية بأن مثله يبطر وقد يؤدي إلى تألهه، قال منبهًا بالإيقاع به على الوجه الماضي أنه من جملة عبيده، لا فرق بينه وبين أضعفهم بالنسبة إلى قدرته: {من عباده}.
ولما دل على أن البسط إنما هو منه، أتبعه قوله دليلًا آخر على ربوبيته: {ويقدر} أي يضيق على من يشاء سواء كان فطنًا أم لا، لا يبسطه لأحد لكرامته عليه، ولا يضيق على أحد لهوانه عنده، ولا يدل البسط والقبض على هوان ولا كرامة، وهذا دليل على أنهم ظنوا صحة قول قارون أنه أوتيه على علم عنده، وأنهم إنما تمنوا علمه الذي يلزم منه على اعتقادهم حصول المال على كل حال.
ولما لاح لهم من واقعته أن الرزق إنما هو بيد الله، أتبعوه ما دل على أنهم اعتقدوا أيضًا أن الله قادر على ما يريد من غير الرزق كما هو قادر على الرزق من قولهم: {لولا أن منَّ الله} أي تفضل الملك الأعظم الذي استأثر بصفات الكمال {علينا} بجوده، فلم يعطنا ما تمنيناه من الكون على مثل حاله {لخسف بنا} مثل ما خسف به {ويكأنه} أي عجبًا أو ندمًا لأنه، أو يشبه أنه، أو ألم تر أنه، قال الرضي في شرح الحاجبية: كأن المخاطب كان يدعى أنهم يفلحون فقال لهم: عجبًا منك، فسئل: لم تتعجب منه؟ فقال: لأنه- إلى آخره، فحذف حرف الجر مع أن كما هو القياس.
{لا يفلح} أي يظفر بمراد {الكافرون} أي العريقون في الكفر لنعمة الله، وقد عرف بهذا تنزيل المعنى على ما قالوه في المراد من ويكأنه، سواء وقف على وي أو يك أو لا.
ذكر شرح هذه القصة: قال البغوي: قال أهل العلم بالأخبار: كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى عليه الصلاة والسلام وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم فبغى وطغى، وكان أول طغيانه وعصيانه أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن يعلقوا في أرديتهم خيوطًا أربعة، في كل طرف منها خيطًا أخضر بلون السماء يذكرونني به إذا نظروا إلى السماء ويعلمون أني منزل منها كلامي، فقال موسى: يا رب! ألا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضرًا، فإن بني إسرائيل تحتقر هذه الخيوط، فقال له ربه: يا موسى! إن الصغير من أمري ليس بصغير، فإذا هم لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير، فدعاهم موسى يعني فأعلمهم ففعلوا واستكبر قارون، فكان هذا بدء عصيانه وطغيانه وبغيه، فلما قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعل الحبورة لهارون عليه السلام وهي رئاسة المذبح، فكان بنو إسرائيل يأتون بهديهم إلى هارون فيضعه على المذبح فتنزل نار من السماء فتأكله، فقال قارون: يا موسى! لك الرسالة ولهارون الحبورة، ولست في شيء وأنا أقرأ التوراة، لا صبر لي على هذا، فقال له موسى عليه الصلاة والسلام: ما أنا بالذي جعلتها في هارون ولكن الله جعلها له، فقال قارون: والله لا أصدقك حتى أرى بيانه، يعني فجمع موسى عصي الرؤساء فحزمها وألقاها في قبته التي كان يعبد الله فيها وباتوا يحرسونها، فأصبحت عصا هارون قد اهتز لها ورق أخضر، وكانت من اللوز، فقال قارون: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر، وذكر أمورًا مما كان يتعظم بها وأنه رمى موسى عليه الصلاة والسلام بعظيمة فحينئذ غار الله لموسى عليه الصلاة والسلام فخسف به.
والذي رأيته أنا في التوراة في السفر الرابع ما نصه: وكلم الرب موسى وقال له: كلم بني إسرائيل وقل لهم: اعملوا خيوطًا في أطراف أرديتكم في أحقابكم، ولتكن الخيوط التي تعملون في أطراف أرديتكم من حرير، ولتكن هذه الخيوط تذكركم وصايا الله لتعملوا بها ولا تضلوا بما في قلوبكم، ولا تتبعوا آراءكم، بل اذكروا جميع وصاياي واعملوا بها، لتكونوا مقدسين لله ربكم، أنا الله ربكم الذي أخرجتكم من أرض مصر، لا يكون لكم إله غيري، أنا الله ربكم.
ومن بعد هذه الأمور شق قورح- وهو اسم قارون بالعبرانية- بن يصهر بن قاهث بن لاوى، ودائن وأبيروم ابنا أليب، وأون بن قلب ابن روبيل العصي، وقاموا بين يدي موسى، وقم من بني إسرائيل عددهم مائتان وخمسون رجلًا من رؤساء الجماعة مذكورون مشهورون بأسمائهم أبطال، هؤلاء أجمعون اجتمعوا إلى موسى وهارون وقالوا لهما: ليس حسبكما أن الجماعة كلها طاهرة وأنتما رئيسان عليها حتى تريدا أن تتعظما على الجماعة كلها- أي يكون هارون هو الكاهن أي متولي أمر القربان والحكم على خدمة قبة الزمان- فسمع موسى ذلك وخر ساجدًا على وجهه، وكلم قورح وجماعته كلها فقال لهم: سيظهر الرب ويبين لمن الكهنوت والرئاسة بكرة، ومن كان طاهرًا فليتقرب إليه.
ومن يختار الرب يتقرب؛ ثم أمرهم أن يقربوا قربانًا ثم قال: يا بني لاوي! أما تكتفون بما اختاره الله لكم من كل جماعة بني إسرائيل وقربكم إليه لتعملوا العمل في بيت الرب وقربك أنت وجميع إخوتك معك إلا أن تريدوا الكهنوت أيضًا، فلذلك أنت وجماعتك كلها احتشدوا بين يدي الرب غدًا، فأما هارون فمن هو حتى صرتم تقعون فيه وتتذمرون عليه، وأرسل موسى ليدعو دائن وأبيروم ابني أليب فقالا: لا تصعد إليك، أما تكتفيان بما صنعتما أنكما أخرجتمانا من الأرض التي تغل السمن والعسل لتقتلانا في هذه البرية حتى تعظما علينا وتفخرا، فأما ما وعدتنا به أنك تدخلنا الأرض التي تغل السمن والعسل فما فعلت، ولم تعطنا مواريث المزارع والكروم، فلو عميت أعيننا لم نصعد إليك.
فشق ذلك على موسى جدًا، وقال أمام الرب: لا تقبل قرابينهم يا رب لأني لم أظلم منهم رجلًا ولا أسأت إلى أحد منهم، ثم قال لقورح: اجتمع أنت وأصحابك أمام الرب وهارون معكم بكرة، وليأخذ كل منكم مجمرته، وقام موسى وهارون أمام قبة الزمان وجمع قورح الجماعة كلها، وظهر مجد الرب للجماعة كلها، وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما: تنحيا عن هذه الجماعة فإني مهلكها في ساعة واحدة، فخرا ساجدين وقالا: اللهم أنت إله أرواح كل ذي لحم، يجرم رجل واحد فينزل الغضب بالجماعة كلها؟ فكلم الرب موسى وقال له: كلم الجماعة كلها وقل لهم: تنحوا عن خيم دائن وأبيروم وقورح، تنحوا عن خيم هؤلاء الفجار، ولا تقربوا شيئًا مما لهم لئلا تعاقبوا، وقال موسى: بهذه الخلة تعلمون أن الرب أرسلني أن أعمل هذه الأعمال كلها، ولم أعملها من تلقاء نفسي، إن مات هؤلاء مثل موت كل إنسان أو نزل بهم الموت مثل ما ينزل بجميع الناس فلم يرسلني الرب، وإن فتحت الأرض فاها وابتلعتهم وابتلعت كل شيء لهم نزلوا هم وكل شيء لهم إلى الجحيم علمتم أن هؤلاء قد أغضبوا الرب. فلما أكمل موسى قوله هذا انفتحت الأرض من تحتهم، وفغرت فاها فابتلعتهم وابتلعت خيمهم وجميع مواشيهم فنزلوا إلى الجحم أحياء، ثم استوت الأرض فوقهم، وهرب جميع بني إسرائيل حيث سمعوا أصواتهم ورأوا ما قد صنع بهم، وقالوا: لعل الأرض تبتلعنا أيضًا، واشتعلت نار من قبل الرب فأحرقت المائتين والخمسين رجلًا الذين كانوا يبخرون البخور، وتذمر جماعة بني إسرائيل من بعد ذلك اليوم على موسى وهارون فقالوا لهما: أنتما قتلتما جماعة شعب الرب، فأقبلوا إلى قبة الزمان ورأوا أن السحاب قد تغشى القبة وظهر مجد الرب، وأتى موسى وهارون فقاما في قبة الزمان، وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما: تنحيا عن هذه الجماعة لأني مهلكها في ساعة واحدة، فخرا ساجدين على وجوههما، وقال موسى لهارون: خذ مجمرة بيدك واجعل فيها نارًا وبخورًا، وانطلق مسرعًا إلى الجماعة واستغفر لهم لأنه قد نزل غضب الرب بالجماعة كلها، وبدأ موت الفجأة بالشعب، وأخذ هارون كما أمره موسى فأحضر إلى الجماعة ورأى أن الموت قد بدأ بالشعب، وبخر بخورًا للرب واستغفر للشعب، وقام فيما بين الأموات والأحياء، فكف موت الفجأة عن الشعب، وكان عدد الذين ماتوا فجأة أربعة عشر ألفًا وسبعمائة رجل غير المخسوف بهم، ورجع هارون إلى موسى إلى قبة الزمان فكلم الرب موسى وقال له: كلم بني إسرائيل وخذ منهم عصا عصا من كل سبط، واكتب اسم كل رجل على عصاه، واكتب اسم هارون على عصا سبط لاوي، واجعلها في قنة الزمان أمام تابوت الشهادة لأنزل إليكم إلى هناك، فالرجل الذي أحبه تنضر عصاه، وأخلصكما من هتار بني إسرائيل وتذمرهم؛ ثم دخل موسى خبأ الشهادة فرأى عصا هارون قد نضرت وأخرجت أغصانًا وأورقت وأثمرت لوزًا، وأخرج موسى العصي كلها فنظروا إليها، وقال الرب لموسى: رد قضيب هارون إلى موضع الشهادة واحفظه آية لأبناء المتسخطين ليكف تذمرهم عني ولا يموتوا، ولا يعمل عمل قبة الزمان غير اللاويين- أي سبط لاوي، فأما بنو إسرائيل- أي باقيهم- فلا يقتربوا إلى قبة الزمان لئلا يعاقبوا ويموتوا؛ ثم ذكر وفاة هارون عليه السلام في هور الجبل وولاية إليعازر ابنه مكانه أمر الكهنوت- انتهى.
وهو نحو مما فعل الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في حنين الجذع، وتخيير النبي صلى الله عليه وسلم له أن يعيده تعالى إلى أحسن ما كان وهو حي أو يجعله في الجنة، فاختار أن يكون في الجنة، وكذا أمر سراقة بن مالك بن جعشم حيث لحقه صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة ليرده فخسف بقوائم حصانه حتى نزل إلى بطنه ثلاث مرات غير أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان نبي الرحمة لم يكن القاضية، فكفى بذلك شره، وأسلم بعد ذلك علم الفتح، وبشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يلبس سوراى كسرى فكان كذلك، وشر من الخسف الذي يغيب به المخسوف به وأنكأ وأشنع وأخزى قصة الذي ارتد فقصم ودفن فلفظته الأرض- روى البيهقي في آخر الدلائل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق هاربًا حتى لحق بأهل الكتاب، فرفعوه وأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها فتركوه منبوذًا، وقال: رواه مسلم في الصحيح، وعن أنس رضي الله عنه مثله أيضًا في رجل نصراني لفظته الأرض ثلاث مرات ثم تركوه.
وقال رواه البخاري في الصحيح. ولما قدم سبحانه أن المفلح من تاب وآمن وعمل صالحًا، وهو الذي أشار أهل العلم إلى أن له ثواب الله، وكان ذلك للآخرة سببًا ومسببًا، ومر فيما لابد منه حتى ذكر قصة قارون المعرّفة- ولابد- بأن هذه الدار للزوال، لا يغنى فيها رجال ولا مال، وأن الآخرة للدوام، وأمر فيها بأن يحسن الابتغاء في أمر الدنيا، وختم بأن هذا الفلاح مسلوب عن الكافرين، فكان موضع استحضار الآخرة، مع أنه قدم قريبًا من ذكرها وذكر موافقتها ما ملأ به الأسماع، فصيرها حاضرة لكل ذي فهم، معظمة عند كل ذي علم، أشار إليها سبحانه لكلا الأمرين: الحضور والعظم، فقال: {تلك} أي الأمر المنظور بكل عين، الحاضر في كل قلب، العظيم الشأن، البعيد الصيت، العلي المرتبة، الذي سمعت أخباره، وطنت على الآذان أوصافه وآثاره {الدار الآخرة} أي التي دلائلها أكثر من أن تحصر، وأوضح من أن تبين وتذكر، من أعظمها تعبير كل أحد عن حياته بالدنيا والتي أمر قارون بابتغائها فأبى إلا علوًا وفسادًا {نجعلها} بعظمتنا {للذين} يعملون ضد عمله.
ولما كان المقصود الأعظم طهارة القلب الذي عنه ينشأ عمل الجوارح، قال: {لا يريدون} ولم يقل يتعاطون- مثلًا، تعظيمًا لضرر الفساد بالتنفير من كل ما كان منه تسبب، إعلامًا بأن النفوس ميالة إليه نزاعة له فمهما رتعت قريبًا منه اقتحمته لا محالة {علوًا} أي شيئًا من العلو {في الأرض} فإنه أعظم جارّ إلى الفساد، وإذا أرادوا شيئًا من ذلك فيما يظهر لك عند أمرهم بمعروف أو نهيهم عن منكر، كان مقصودهم به علو كلمة الله للإمامة في الدين لا علوهم {ولا فسادًا} بعمل ما يكره الله، بل يكونون على ضد ما كان فيه فرعون وهامان وقارون، من التواضع مع الإمامة لأجل حمل الدين عنهم ليكون لهم مثل أجر من اهتدى بهم، لا لحظ دنيوي، وعلامة العلو لأجل الإمامة لا الفساد ألا يتخذوا عباد الله خولًا، ولا مال الله دولًا، والضابط العمل بما يرضي الله والتعظيم لأمر الله والعزوف عن الدنيا.
ولما كان هذا شرح حال الخائفين من جلال الله تعالى، أخبر سبحانه أنه دائمًا يجعل ظفرهم آخرًا، فقال معبرًا بالاسمية دلالة على الثبات: {والعاقبة} أي الحالة الأخيرة التي تعقب جميع الحالات لهم في الدنيا والآخرة، هكذا الأصل، ولكنه أظهر تعميمًا وإعلامًا بالوصف الذي أثمر لهم ذلك فقال تعالى: {للمتقين} أي دائمًا في كلا الدارين، لا عليهم فمن اللام يعرف أنها محمودة، وهذه الآيةِ يُعْرَف أهل الآخرة من أهل الدنيا، فمن كان زاهدًا في الأولى مجتهدًا في الصلاح، وكان ممتحنًا في أول أحواله مظفرًا في ماله، فهو من أبناء الآخرة، وإلا فهو للدنيا. اهـ.